المسألة الأولىأنَّ مَنْ سَبَّ النبي e
من مسلم أو كافر فانه يجب قتله
هذا مذهَبُ عامةِ أهلِ العلم، قال ابنُ المُنْذِرِ:
"أجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ على أَنَّ [حَدَّ] من سَبَّ النبيَّ e القتل، وممن قاله
مالكٌ واللَّيثُ وأحمدُ وإسحاقُ، وهو مذهبُ الشافعي". قال: "وحُكي
عن النعمان: لا يقتل – يعني الذِّمَّي- ما هُم عليه من الشركِ أعْظَمُ".
وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحابِ الشافعي إجماعَ
المسلمين على أنَّ حدَّ من يَسبّ النبيَّ e القتلُ
كما أن حدَّ من سَبَّ غيرَه الجلدُ. وهذا الإجماعُ الذي حكاه هذا محمولٌ على
إجماعِ الصَّدْرِ الأول مِن الصحابة والتابعين، أو أنه أرادَ به إجماعَهم على أن
سَابَّ النبيَّ e يجبُ قتلُه إذا كان مسلماً، وكذلك قَيَّدَه القاضي
عِيَاضٌ، فقال: "أجمعت الأمةُ على قَتْل متنقِّصِه
من المسلمين وسابِّه"، وكذلك حَكَى [عن] غيرِ واحدٍ الإجماع على قتله
وتكفيره. وقال الإمامُ إسحاقُ/ بن رَاهُوْيَه أحدُ الأئمة الأعْلام: أجمع المسلمون
على أنَّ من سَبَّ اللهَ، أو سَبَّ رسولَه e، أو دَفَعَ
شيئاً مما أنزل الله عزّ وجلّ، أو قَتَلَ نبياً من أنبياء اللهِ عزّ وجلّ، أنه
كافر بذلك وإن كان مُقِرّاً بكل ما أنزل اللهُ.
وقال الخطّابي: "لا
أعلم أحداً من المسلمين اخْتَلَفَ في وُجُوب قَتْله".
وقال محمد بن سُحْنُون: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي e المتَنَقِّصَ له كافرٌ,
والوعيدُ جارٍ عليه بعذاب [اللهِ] له وحكمه عند الأمة القتلُ، ومَنْ شكَّ في كفره
وعذابه كفر".
تحرير القول في حكم الساب
وتحرير القول فيها: أنَّ السابَّ أن كان مسلماً فانه
يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى
الإجماعَ على ذلك من الأئمة مثل إسحاقُ بن رَاهُوْيَه وغيره، وان كان ذمِّيّاً
فانه يقتل أيضاً في مذهب مالكٍ وأهْلِ المدينة، وسيأتي حكايةُ [ألفاظهم]، وهو
مذهبُ أحمد وفقهاءِ الحديث وقد نَصَّ أحمدُ على ذلك في مواضعَ متعددة. "قال
حَنْبَل: سمعت أبا عبدالله يقول:
نصوص الإمام أحمد"كلُّ من شتم
النبيe أو تنقَّصه- مسلماً كان أو كافراً – فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتل
ولا يُستتاب". قال: وسمعت أبا عبدالله يقول:
"كلُّ مَن نَقَضَ العهدَ وأحدث في الإسلام حَدَثاً مثل هذا رأيتُ عليه
القتل، ليس على هذا أعْطُوا العهدَ*) والذِّمَّة"،
وكذلك قال أبو الصقر: سألت أبا عبدالله عن رجل من أهل الذمَّة شتم النبيَّ e، ماذا عليه؟ قال:
إذا قامت عليه البينة يقتل مَنْ شتم النبي e، مسلماً كان أو
كافراً"، رواهما الخَلاَّل.
وقال في رواية عبدالله وأبي طالب وقد
سُئل عمن شتم النبيَّ e قال: "يُقتل،
قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديثُ الأعمى الذي قَتَلَ المرأة،
قال: سمعتها تَشتمُ النبيَّ e، وحديثُ حصينٍ أن
ابن عمر قال: من شتم النبيَّ e قُتل، وعمر ابن
عبدالعزيز يقول: يُقتل، وذلك أنه من شتم النبيَّ e فهو مُرْتَدٌّ عن
الإسلام، ولا يشتم مسلمٌ النبيَّ e".
زاد عبدُالله: "سألتُ أبي عمن شتم النبيَّ e، يُستتاب؟ قال: قد وجب عليه
القتلُ، ولا/ يُستتاب؛ خالد بن الوليد قَتَلَ رجلاً شتم النبي e ولم يَسْتَتِبْه"، [رواهما]
أبو بكر في "الشافي"، وفي رواية أبي طالب: "سئل أحمدُ عمن شتم
النبيَّ e، قال: يُقْتَلُ، قد نَقَضَ العَهْدَ. وقال حرب: "سألتُ أحمد
عن رجلٍ من أهل الذمة شتم النبيَّ e، قال: يقتل، إذا شتم النبيَّ e". رواهما الخَلاَّل، وقد نص على
هذا في [غير] هذه الجوابات.
فأقوالُه
كلُّها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلافٌ.
وكذلك ذَكَرَ عامةُ أصحابه متقدمُهُمْ ومتأخرهم، لم
يختلفوا في ذلك.
ما ينتقض به عهد الذمي
إلا أن القاضي في "المجرَّد" ذكر الأشياء
التي يجب على أهل الذمة تركُها وفيها ضَرَرٌ على المسلمين وآحادِهم في نفسٍ أو
مالٍ، وهي: الإعانةُ على قتال المسلمين، وقَتْلُ المسلم أو المسلمة، وقطع الطريق
عليهم، وأن يؤوِيَ للمشركين جاسوساً، وأن يعين عليهم بدَلالةٍ، مثل: أن يكاتب
المشركين بأخبار المسلمين، وأن يزني بمسلمةٍ أو يصيبها باسم نكاحٍ، وأن يَفْتِنَ
مسلماً عن دينه، قال: "فعليه الكَفُّ عن هذا، شُرط أو لم يُشرط؛ فإن خالف
انتقضَ عهدهُ". وذكر نصوص أحمد في بعضها، مثل نصه في الزنى بالمسلمة، وفي
التجسس للمشركين وقتلِ المسلم وإن كان عَبْداً كما ذكره الخِرَقي، ثم ذكر نصه في
قذف المسلم على أنه لا ينتقض عَهْدُه؛ بل يُحَدُّ حدَّ القذفِ. قال: "فتخرج
المسألة على روايتين"، ثم قال: "وفي معنى هذه الأشياء: ذكرُ الله
وكتابهِ ودينه ورسولهِ بما لا ينبغي، فهذه أربعةُ أشياء الحكمُ فيها كالحكم في
الثمانية التي قبلها، ليس ذكْرُها شرطاً في صحة العقد، فان أتَوْا واحدةً منها
نَقََضُوا الأمان، سواء كان مشروطاً في العهد أو لم يكن، وكذلك قال في
"الخلاف" بعد أنْ ذكر أنَّ المنصوص انتقاضُ العهد بهذه الأفعال
والأقوالِ. قال: "وفيه روايةٌ أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بَذْلِ
الجِزْية وجَرْيِ أحكامنا عليهم".
ثم ذكر نصَّه على أنَّ الذِّمي إذا قَذَفَ المسلم
يُضْرَبُ، قال: "فلم يَجْعَلْه ناقضاً للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضررِ
عليه بهتكِ عِرْضه". وتَبِعَ القاضي جماعةٌ من/ أصحابه ومن بعدهم ـ مثل
الشريف أبي جعفر وابن عقيل وأَبي الخطاب والْحُلْوَانِي ـ فذكروا أنه لا خِلاَفَ
أنهم إذا امتنعوا من أداءِ الجزْيِة أو التزامِ أحكام الملَّةِ انتقض عَهْدُهم،
وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها [ضررٌ] على المسلمين وآحادِهم في
نفسٍ أو مالٍ، أو فيها غَضَاضةٌ على المسلمين في دينهم، مثل سبَّ الرسولِ e وما معه روايتين:
إحداهما: ينتقض العهد بذلك.
والأخرى: لا ينتقض عهده، ويقام فيه حدود ذلك.
مع أنهم كلُّهم متفقون على أن المذهبَ انتقاضُ العهد
بذلك. ثم أنَّ القاضي و الأكثرين لم يعدُّوا قَذْف المسلم من الأمور المضرة
الناقضة، مع أن الرواية المُخَرَّجَةَ إنما خُرَّجَتْ من نصِّه في القَذْفِ. وأما
أبو الخطاب ومَن تبعه فنقلوا حُكم تلك الخصال إلى القَذْف كما نقلوا حكم القَذْف
إليها، حتى حكوا في انتقاض العهد بالقَذْف روايتين.
ثم إن هؤلاء كلَّهم وسائرَ الأصحابِ ذكروا مسألةَ
سبِّ النبيَّ e في موضعٍ آخر، وذكروا أن سَابَّهُ يُقْتَلُ وإن كان ذمياً، وأن عهده
ينتقض، وذكروا نصوص أحمد من غير خلافٍ في المذهب. إلا أن الحُلْوَاني قال:
"ويحتمل أن لا يُقْتَلَ من سَب الله ورسوله إذا كان ذِمِّياً". وسلك
القاضي أبو الحسين في نواقض العهد طريقةً ثانيةً تُوَافِقُ قولهم هذا فقال:
"أما الثمانية التي فيها ضررٌ على المسلمين وآحادِهم في مالٍ أو في نفسٍ
فإنها تنقضُ العهد في أصحِّ الروايتين، وأما ما فيه إدخالُ غَضَاضةٍ ونقص على
الإسلام ـ وهي ذكرُ اللهِ وكتابهِ ودينهِ ورسولهِ بما لا ينبغي ـ فانه ينقضُ
العهدَ" نصَّ عليه، ولم يخرج في هذا روايةً أخرى كما ذكر أولئك في أحد الموضعين،
وهذا أقْرَبُ من تلك الطريقة، وعلى الروايةِ التي تقول: "لا ينتقضُ العهدُ
بذلك"، فإنما ذلك إذا لم يكن مشروطاً عليهم في العقدِ.
فأما إن كان مشروطاً ففيه وجهان:
أحدهما: يُنتقض، قاله الخِرَقي. قال أبو الحسن
الآمدي: "وهو الصحيحُ في كلِّ ما شُرِطَ [عليهم] تَرْكُه"؛ صحَّح قولَ
الخِرَقي بانتقاضِ العهدِ إذا خالفوا شيئاً/ مما شرط عليهم.
والثاني: لا ينتقض، قاله القاضي وغيره، صرَّح أبو
الحسين بذلك هنا كما ذكره الجماعةُ فيما إذا أظهروا دينَهم وخالفوا هيئتهم من غيرِ
إضرارٍ كإظهار الأصواتِ بكتابهم والتَّشَبِه بالمسلمين، مع أن هذه الأشياء كلها
يجب عليهم تركُها؛ سواء شُرِطت في العقد أو لم تُشرطْ.
ومعنى اشتراطها في العقد: اشتراطُ تركها بخصوصِها.
وهاتان الطريقتان ضعيفتان، والذي عليه عامةُ
المتقدمين من أصحابنا ومَن تبعهم من المتأخرين: إقرارُ نصوصِ أحمد على حالها، وهو
قد نصَّ في مسائل سبَّ اللهِ ورسولهِ على انتقاضِ العهدِ في غيرِ موضعٍ، وعلى أنه
يُقتل، وكذلك فيمن جسَّس على المسلمين أو زَنى بمسلمةٍ على انتقاض عهده وقَتْله في
غير موضعٍ. وكذلك نَقَلَه الخِرَقي فيمن قتل مسلماً، وقَطْعُ الطريق أَوْلَى.
وقد نصَّ أحمدُ على أنَّ قَذْفَ المسلمِ وسِحْرَه لا
يكون نقضاً للعهد في غير موضعٍ. وهذا هو الواجبُ؛ لأنَّ تخريجَ إحدى المسألتين إلى
الأُخرى وجَعْلَ المسألتين على روايتين ـ مع وجودِ الفَرْق بينهما نصّاً
واستدلالاً، أو مع وجودِ معنى يجوزُ أن يكون مستنداً للفَرْقِ ـ غيرُ جائزٍ، وهذا
كذلك، وكذلك قد وافَقَنا على انتقاض العهد بسبِّ النبيَّ e جماعةٌ لم يوافقوا على الانتقاضِ ببعضِ هذِهِ الأمورِ.
حكاية مذهب الشافعي
وأما
الشافعي فالمنصوصُ عنه نفسه أن عهده ينتقض بسبّ النبيَّ e، وأنه يقتل. هكذا حكاه ابنُ المُنْذِر والخطابيُّ وغيرهما.
والمنصوص عنه في "الأُمِّ" أنه قال: "إذا أراد الإمامُ أن يكتب
كتابَ صلح على الجزية كتب..." ـ وذكر الشروط إلى أن قال:-"وعلى أنَّ
أحداً منكم إن ذكر محمداًَ e أو كتابَ الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد بَرِئَتْ منه
ذمةُ الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونقض ما أُعطي من الأمان، وحَلَّ
لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تَحِلُّ أموالُ أهل الحرب ودماؤهم، وعلى أنَّ أحداً
من رجالهم أن أصاب مسلمةً بزنى أو اسم نكاحٍ، أو قَطَع الطريقَ على مسلمٍ، أو
فَتَنَ مسلماً عن دينه، أو أعان المحاربين على المسلمين بقتالٍ أو دَلالةٍ على
عَوْرَات المسلمين أو إيواءٍ لعيونهم/ فقد [نَقَضَ] عهدَه وأحلَّ دَمهُ ومالَهُ،
وإن نال مسلماً بما دون هذا في مالِهِ أو عِرْضِهِ ... لزمه فيه الحكم".
ثم
قال: "فهذه الشروطُ اللازمة إن رضي بِهَا، فإن لم يَرْضَهَا فلا عَقْدَ ولا
جِزْيَةَ".
ثم
قال: "وأيهم قال أو فعل شيئاً مما وصفته نقضاً للعهد وأسلم لم يُقتلْ إذا كان
ذلك قولاً، وكذلك إذا كان فعلاً لم يُقتلْ، إلا أن يكون في دين المسلمين أنَّ مَن
فعله قُتِل حدّاً أو قصاصاً فيقتل بحدٍّ
أو قصاصٍ لا نقض عهدٍ.
وإن
فَعَلَ مما وصفنا وشرط أنه نقضٌ لعهد الذمة فلم يُسْلمْ ولكنه قال: أتوب وأُعْطِي
الجِزْية كما كنت أعطيها، أو على صُلْح أجَدِّدُه عوقب ولم يُقتلْ، إلا أن يكون
فَعل فعلاً يوجبُ القصاصَ أو الحدّ. فأما ما دون هذا من الفعل أو القولِ فكل قولٍ
فيعاقَبُ عليه ولا يقتل".
قال:
"فأن فَعَلَ أو قالَ ما وصفنا وشرط أنه يحلّ دمه فظُفِرَ به فامتنع من أن
يقول: أسلم، أو أعطي الجزية قُتِلَ وأُخذ مالُه فَيْئاً".
ونصّ
في "الأُمِّ" أيضاً أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق، ولا بقتل المسلم،
ولا بالزنى بالمسلمة، ولا بالتجسس، بل يُحَدُّ فيما فيه الحد، ويُعاقبُ عقوبةً
منكَّلة فيما فيه العقوبة، ولا يُقتل إلا بأن يجب عليه القتل.
قال:
"ولا يكون النقضُ للعهدِ إلا بمنع ِ الجزيةِ، أو الحكم بعد الإقرارِ
والامتناعِ بذلك" ـ قال ـ: ولو قال: "أؤدِّي الجزيةَ ولا أقر
بالحكم" نُبِذَ إليه، ولم [يقاتلْ] على ذلك مكانه، وقيل: قد تقدَّم لك أمانٌ،
فأمانك كان للجزية وإقرارك بها وقد أجَّلْنَاك في أن تخرج من بلاد الإسلام، ثم إذا
خَرَجَ فبلغ مَأمَنَهُ قُتِلَ أن قُدِرَ عليه".
فعلى
كلامِهِ المأثور عنه يُفَرَّق بين ما فيه غَضَاضة على الإسلام وبين الضررِ
بالفعلِ، أو يقال: يُقتل الذمي لسبِّه وان لم ينتقضْ عهده، كما سيأتي أن شاء الله.
أقوال أصحاب الشافعي
وأما
أصحابه فذكروا ـ فيما إذا ذكَرَ الله أو كتابَهُ أو رسولَه بسوء ـ وجهين:
أحدهما:
يُنتقض عهدهُ بذلك، سواءٌ شُرِط عليه تركُه أو لم يُشرطْ، بمنزلةِ ما لو قاتلوا
المسلمين وامتنعوا من التزامِ الحكمِ كطريقةِ أبي الحسين من أصحابنا، وهذه طريقةُ
أبي إسحاق المْروَزِيِّ، ومنهم من خَصَّ سبَّ رسولِ اللهِ e وَحْده بأنه يُوجِبُ القتل.
والثاني:
أنَّ السبَّ/ كالأفعالِ التي على المسلمين فيها ضرر من قتلِ المسلم ِ والزنى
بالمسلمةِ والجّسِ وما ذكر معه.
وذكروا
في تلك الأمور وجهين:
أحدهما:
أنه أن لم يُشْرَطْ عليهم تركُها بأعيانها لم ينتقضْ العهدُ بفعلها. وإن شرط عليهم
تركُها بأعيانها ففي انتقاضِ العهدِ بفعلِها وجهان.
والثاني:
لم ينتقض العهدُ بفعلها مطلقاً.
ومنهم
مَن حكى هذه الوجوه أقوالاً، وهي أقوال مشارٌ إليها؛ فيجوز أن تُسمَّى أقوالاً ووجوهاً.
هذه طريقةُ العراقيين، وقد صَرَّحوا بأنّ المرادَ شرطُ تركها، لا شرط انتقاض العهد
بفعلها كما ذكره أصحابنا.
وأما
الخُراسانيون فقالوا: المرادُ بالاشتراط هنا شَرْطُ انتقاض العهد بفعلها، لا شرطُ
تركها، قالوا: لأنَّ الترك مُوجبُ نفسِ العقدِ، ولذلك ذكروا في تلك الخصالِ المضرة
ثلاثة أوجهٍ:
أحدها:
يُنتقض العهدُ بفعلِها.
والثاني:
لا يُنتقض.
والثالث:
إن شُرِطَ في العقدِ انتقاضُ العهدِ بفعلها انتقض، وإلاَّ فلا.
ومنهم
مَن قال: أن شُرِطَ نقض وجهاً واحداً، وإن لم يشرطْ فوجهان، وحَسِبُوا أنّ مرادَ
العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكايةً عنهم: إن لم يجر شرطٌ لم ينتقض العهد، وإن
جرى فوجهان، ويلزم من هذا أنْ يكونَ العراقيون قائلين بأنه أن لم يجرِ شرطُ
الانتقاضِ بهذه الأشياء لم يُنتقضْ بها
قولاً واحداً، وإن صرح بشرط تركها، وهذا غلط عليهم، والذي نصروه في كُتُبِ الخلاف
أنَّ سبِّ النبي e ينقُضُ العهدَ ويوُجِبُ
القتلَ، كما ذكرنا عن الشافعي نفسه.
مذهب أبي حنيفة
وأما أبو حنيفة وأصحابُه فقالوا: لا يُنتقض العهدُ
بالسبِّ، ولا يُقتل الذِّمي بذلك، لكن يُعَزَّز على إظهار ذلك كما يُعزز على
إظهارِ المنكراتِ التي ليس لهم فعلُها من إظهارِ أصواتِهم بكتابهم ونحو ذلك، وحكاه
الطحاويُّ عن الثوريِّ، ومن أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمُثَقَّل
والجماع في غير القُبُلِ إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله، وكذلك له أن يزيد على
الحدِّ المُقَدَّر إذا رأى المصلَحَةَ في ذلك، ويحملون ما جاء عن الرسول e وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأيُ المصلحة في
ذلك، ويُسمونه القَتْلَ سياسةً، وكان حاصله أنَّ له أن يُعزِّزَ بالقتل في الجرائم
التي تَغَلَّظَت بالتكرار، وشرع القتلُ في جنسِها، ولهذا أفْتَى أكثرهم بقتل مَنْ
أكثر مِن سَبِّ النبيَّ e/ من أهل الذمة وإن أسْلَم بعد أخْذِه، وقالوا: يُقتل سياسةً، وهذا
متوجهٌ على أصولهم.
الأدلة على انتقاض عهد الذمي الساب
والدلالةُ
على انتقاض عهد الذميِّ بسبِّ اللهِ أو كتابِه أو دينهِ أو رسولهِ، ووجوبِ قتلهِ
وقتلِ المسلم إذا أتى ذلك: الكتابُ، والسنة، وإجماعُ الصحابةِ والتابعين،
والاعتبارُ.
الأدلة من القرآن
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أما الكتابُ فيُستنبط ذلك
منه من مواضع:
الدليل
الأول
أحدها:
قولُه تعالى: )قَاتِلُوا الَّذِِيْنَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ( _ إلى قوله _: )مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ( فأمَرَنا بقتالهم إلا أن يُعْطُوا الجزيةَ وهم صاغرون، فلا يجوزُ
الإمساكُ عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حالَ إعطائهم الجزيَةَ، ومعلومٌ أن إعطاء
الجزيةِ من حين بَذْلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا
الجزيةَ شَرَعُوا في الإعطاء، ووجب الكفُّ عنهم إلى أن يُقْبِضُونَاهَا فيتم
الإعطاءُ؛ فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولاً وامتنعوا من تسليمها ثانياً لم
يكونوا معطيْنَ للجزية؛ لأن حقيقة الإعطاءِ لم توجد، وإذا كان الصَّغَارُ حالاًّ
لهم في جميع المُدَّة فمن المعلوم أن من أظهَرَ سَبَّ نبينا في وجوهنا وشَتَمَ
ربَّنَا على رؤوسِ المَلأ منَّا وطَعَنَ في ديننا في مجامِعنا فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ
الصَّاغِرَ الذليلُ الحقيرُ، وهذا فعلُ متعزِّزٍ مُرَاغِم، بل هذا غايةُ ما يكونُ
من الإذلالِ له والإهانةِ.
قال
أهل اللغةِ: الصَّغار: الذُّلُّ والضَّيْم، يقال: صَغِر الرَّجُلُ ـ بالكسرـ:
يصْغَرُ ـ بالفتح ـ: صَغَراً وصُغَراً، والصّاغِرُ: الراضي بالضَّيمِ.
ولا
يخفى على المتأمِّل أنَّ إظهارَ السبِّ والشتم لدينِ الأمةِ الذي به اكتسبت شَرَف
الدنيا والآخرة ليس فعلَ راضٍ بالذلِّ والهوانِ، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.
وإذا
كان قتالهم واجباً علينا إلا أن يكونوا صاغرين، وليسوا بصاغرين، كان القتالُ
مأموراً به، وكلُّ من أُمِرْنَا بقتاله من الكفار فانه يُقْتَلُ إذا قَدَرْنَا
عليه.
وأيضاً،
فإنَّا إذا كُنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم بجزْ أن نَعْقِدَ لهم عهدَ
الذمةِ بدونها، ولو عُقِدَ لهم كان عقداً فاسداً، فيبقون على الإباحة.
ولا
يقال [فيهم]: فهم يحسبون أنهم مُعَاهَدُونَ، فتصير لهم شبهةُ أمانٍ، وشبهةُ
الأمانِ كحقيقته، فإنَّ مَن تكلَّم بكلامٍ يحسبه الكافرُ أماناً كان في حقه أماناً
وإن لم يقصدْه المسلم؛ لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنَّا لم/ نَرْضَ بأن يكونوا تحت
أيدينا مع إظهارِ شتمِ دينِنا وسبَّ نبينَّا، وهم يَدْرُون أنا لا نعاهدُ ذمياً
على مثل هذه الحال؛ فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا – مع اشتراطنا
عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكامُ الملةِ – دَعْوَى كاذبة، فلا يُلتفتُ
إليها.
وأيضاً،
فإنّ الذين عاهدوهم أول مرةٍ هم أصحابُ رسولِ اللهِ e مثل عمر، وقد علمنا أنه يمتنع أن نعاهدهم عهداً خلاف ما أمر الله
به في كتابِه.
وأيضاً،
فإنا سنذكر شروطَ عمر رضي الله عنه، وأنها تضمّنت أنَّ مَن أظهرَ الطعْنَ في ديننا
حلَّ دمُه ومالُه.
الدليل الثاني من
القرآن
الموضع
الثاني:
قوله تعالى: )كَيْفَ يَكُونُ لِلمُشْرِكِيْنَ
عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولهِ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم عِنْدَ
المَسْجِدِ الْحَرامِ( -
إلى قوله-: )وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ
بَعدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ
إنَّهُمْ لاَ أَيْمانَ لهُمْ لَعَلََّهُمْ يَنْتَهُون(، نفى سبحانه أن يكون لمشركٍ عهدٌ ممن كان النبيُّ e قد عاهدهم، إلا قوماً ذكرهم، فإنه جعل لهم عهداً ما داموا
مستقيمين لنا، فعُلم أن العهد لا يبقى للمشركِ إلا ما دام مستقيماً، ومعلومٌ
مُجَاهرتنا بالشتيمة والوقيعةِ في رَبِّنَا ونبينا وديننا وكتابنا يَقْدَحُ في
الاستقامة، كما تَقْدَحُ مجاهرتُنَا بالمحاربةِ في العهدِ، بل ذلك أشد علينا إن
كنا مؤمنين، فإنه يجب علينا أنْ نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمةُ اللهِ هي
العليا، ولا يُجْهَر في ديارنا بشيءٍ من أذى اللهِ ورسوله، فإذا لم يكونوا
مستقيمين لنا بالقَدْح في أهْوَنِ الأمرين، كيف يكونون مستقيمين مع القدحِ في
أعظمهما؟
يوضِّحُ
ذلك في قولُه تعالى: )كيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ
يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا ذِمَّةً( أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يَرقُبُوا الرَّحِمَ
التي بينكم ولا العهدَ الذي بينكم؟ فعُلم أنَّ مَن كانت حالهُ أنه إذا ظهر لم
يَرْقُبْ ما بيننا وبينه من العهدِ لم يكنْ له عهدٌ، ومن جَاهَرَنا بالطعن في ديننا
كان ذلك دليلاً على أنه لو ظَهَر لم يَرْقُبِ العهدَ الذي بيننا [وبينه]؛ فإنه إذا
كان مع وجودِ العهدِ والذِّلَّةِ يفعلُ هذا، فكيف يكون مع العِزّةِ والقدرةِ؟ وهذا
بخلاف مَن لم يُظْهِر لنا مثلَ هذا الكلامِ، فإنه يجوزُ أن يَفِيَ لنا بالعهدِ لو
ظهر.
وهذه
الآية، وإن كانت في أهلِ الهُدْنَةِ الذين يُقيمون في دارهم، فإن معناها ثابتٌ في
أهلِ الذمةِ المقيمون في دارِنا بطريق الأوْلى.
الدليل الثالث من القرآن
/الموضع
الثالث:
قوله تعالى: )وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ( وهذه الآيةُ تدلُّ مِن وجوهٍ:
أحدها:
أنَّ مجرد نَكْث الأيمان مقتضٍ للمقاتلةِ، وإنما ذَكَر الطعن في الدين وأفرده
بالذكر تخصيصاً له بالذكر وبياناً؛ لأنه من أقوى الأسباب الموُجِبَة للقتال، ولهذا
يُغَلَّظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما
سنذكره إن شاء الله تعالى، أو يكون ذكره على سبيل التوضيح، وبيان سبب القتال، فإن
الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعياً إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا،
وإما مجرَّدُ نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعةً وحميةً ورياءً، ويكون ذكر الطعن
في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى: )فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الكُفْرِ(
وبقوله تعالى: )أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بإخْرَاجِ الرّسُولِ وهُمْ بَدَءوكُمْ أوَّلَ مَرّةٍ( - إلى قوله - )قَاتِلُوهم يُعَذِِّبْهُمُ
اللهُ بأيْدِيكُمْ(
الآية، فيفيد ذلك أن مَن لم يَصْدُرْ منه إلا مجردُ نكثِ اليمين جاز أن يُؤمن
ويعاهد، وأما مَن طعن في الدين فأنه يتعيّنُ قتاله، وهذه كانت سنةُ رسول الله e؛ فإنه كان يْندِرُ دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن
أمْسَكَ عن غيره، وإذا كان نقضُ العهدِ وحده مُوجِباً للقتال وإن تَجَرَّد عن
الطعن عُلم أنَّ الطعن في الدِّين إما سَبَبٌ آخر، أو سببٌ مستلزمٌ لنقض العهد،
فإنه لابد أن يكون له تأثيرٌ في وجوب المقاتلة، وإلا كان ذكره ضائعاً.
فان
قيل: هذا يفيد أنَّ مَن نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله، أما من طعن في الدين
فقط فلم تتعرض الآية له، بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم؛ لأن الحكم
المعلَّق بصفتين لا يجب وجوده عند وجودِ إحداهما.
قلنا:
لا رَيْبَ أنه لا بُدَّ أن يكون لكل صفةٍ تأثيرٌ في الحكم، وإلا فالوصفُ العديمُ
التأثير لا يجوزُ تعليقُ الحكم به، كمن قال: مَن زَنَى وأَكَلَ جُلِدَ، ثم قد تكون
كل صفةٍ مستقلةً بالتأثير لو انفردت كما يقال: يُقتل هذا لأنه مُرْتَدٌّ زانٍ، وقد
يكون مجموعُ الجزاء مرتباً على المجموع ولكل وصفٍ تأثيرٌ في البعض كما قال: )وَالَّذِيْنَ لاَ
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ( الآية/ وقد تكون تلك الصفاتُ متلازمةً كل منها لو فرض تجرُّدُهُ
لكان مؤثراً على سبيل الاستقلال أو الاشتراكِ، فيذكر إيضاحاً وبياناً للموجب، كما
يقال: كَفَرُوا باللهِ وبرسوله، وعَصَى اللهَ ورسوله، وقد يكون بعضها مستلزماً
للبعض من غير عكسٍ كما قال: )أنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ
بآياتِ اللهِ ويقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْر ِحَقّ( الآية، وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دَلاَلَةٌ؛ لأن
أقصى ما يقالُ: أنَّ نقض العهدِ هو المبيحُ للقتالِ، والطعن في الدين مؤكدٌ له
وموجبٌ له، فتقول: إذا كان الطعنُ يغلِّظُ قتالَ من ليس بيننا وبينه عهدٌ ويُوجبه
فأن يوجبَ قتالَ من بيننا وبينه ذمةٌ وهو ملتزم للصَّغار أوْلى، وسيأتي تقرير ذلك.
على
أن المعاهَدَ له أن يُظْهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا، والذميّ
ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئاً من دينه الباطل وإن لم يُؤْذِنا، فحالُه
أشدُّ، وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهَدِينَ لا أهْلَ ذمة، فلو
فرض أن مجرد طعنهم ليس نَقْضاً للعهد لم يكن الذميّ كذلك.
الوجه
الثاني:
أن الذّميَّ إذا سبَّ الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانيةً فقد نكَث يمينه وطعن
في ديننا؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقب على ذلك ويُؤَدَّبُ عليه، فعلم
أنه لم يُعاهد عليه؛ لأنا لو عاهدناه عليه ثم فَعَلَه لم تجز عقوبته عليه، وإذا
كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا فقد نكث في [يمينه]من بعد
عهده وطعن في دينِنا، فيجب قتله بنص الآية، وهذه دلالةٌ قويةٌ حسنة؛ لأن المنازع
يُسَلّم لنا أنه ممنوعٌ من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه، لكن يقول: ليس كلُّ ما
منع منه نقض عهده كإظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك، فنقول: قد وجد منه شيئان:
[فِعلُ] ما منع منه العهد، وطعنٌ في الدين، بخلاف أولئك؛ فإنه لم يوجدْ منهم إلا
فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط، والقرآنُ يوجِبُ قتل من نكث يمينه من بعد عهده
وطَعَنَ في الدين، ولا يمكن أن يقال: "لم ينكث"؛ لأن النكث هو مخالفةُ
العهد، فمتى خالفوا شيئاً مما صُولحوا عليه فهو نَكْثٌ، مأخوذٌ من نكث الحبل وهو
نَقْضُ قُوَاه، ونَكْثُ الحبل يحصل بنقض قوةٍ واحدةٍ، كما يحصل/ بنقض جميع
القُوَى، لكن قد يبقى من قُوَاه ما يستمسك الحبلُ به، وقد يَهِن بالكلية، وهذه
المخالفة من المعاهَدِ قد تُبْطِلْ العهد بالكلية حتى تجعله حربياً، وقد شَعِث
العهد، حتى تبيح عقوبتهم، كما أن نقض[بعض] الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد
تُبْطل البيع بالكلية كما لو وصفه بأنه فَرَسٌ فظهر بعيراً، وقد يبيح الفسخَ
كالإخلال بالرهن والضَّمِين، هذا عند من يفرق في المخالفة، وأما من قال:
"ينتقضُ العهدُ بجميع المخالفات" فالأمر ظاهرٌ على قوله، وعلى التقديرين
قد اقتضى العقدُ أن لا يُظْهِرُوا شيئاً من عَيْب ديننا، وأنهم متى أظهروه فقد
نكثوا وطعنوا في الدين، فيدخلون في عموم الآية لفظاً ومعنى، ومثلُ هذا العموم يبلغ
درجة النصِّ.
بم استحقوا إمامة الكفر
الوجه
الثالث:
أنه سَمَّاهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين، وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله: )أَئِمَّةَ الكُفْرِ( إما أن يُعْنَى به الذين نكثوا وطعنوا، أو بعضهم، والثاني لا
يجوز؛ لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم، فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاءِ؛ إذ
العلة يجب طَرْدُها إلا لمانع ولا مانع، ولأنه عَلَّل ذلك ثانياً بأنهم لا أيمان
لهم، وذلك يشمل جميعَ الناكثين الطاعنين، ولأن النَّكْث والطعن وَصْفٌ مشتقٌ
مناسبٌ لوجوب القتال، وقد رُتِّبَ عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه، وذلك
نصٌّ في أن ذلك الفعلَ هو الموجب الثاني؛ فثبت أنه عنى الجميع، فيلزم أن الجميع
أئمةُ كفرٍ، وإمامُ الكفر هو الداعي إليه المُتَّبَعُ فيه، وإنما صار إماماً في
الكفرِ لأجلِ الطعن، فإنَّ مجرَّد النكث لا يوجب ذلك، وهو مناسب؛ لأن الطاعن في
الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فثبت أنَّ كلَّ طاعنٍ في
الدين فهو إمامٌ في الكفر، فإذا طعن الذميٌّ في الدين فهو إمامٌ في الكفر، فيجب
قتالُه لقوله تعالى: )فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ( ولا يمين له؛ لأنه عاهَدَنَا على أن لا يظهر عَيْبَ الدين هنا
وخَالَفَ، واليمين هنا المرادُ بها: العهودُ، لا القَسَم بالله، فيما ذكره
المفسرون، وهو كذلك؛ فإنَّ النبي e لم يقاسمهم بالله عام الحُدَيْبية، وإنما عَاقَدهم عقداً،
ونُسْخَةُ الكتاب معروفةٌ ليس فيها قَسَمٌ، وهذا لأنَّ اليمين [*يقال: إنما
سُمِّيت بذلك لأنَّ المعاهِدَيْنِ يمدُّ كلٌّ منهما يمينه إلى الآخر، ثم غَلَبَت
حتى صار مجرَّدُ الكلام بالعهد يُسمى يميناً، ويقال: سُميت يميناً لأن اليمين هي
القوةُ والشدةُ، كما قال الله تعالى: )لأَخَذْنَا مِنْهُ
بِاليَمِيْن(
فلما كان الحلف معقوداً مشدَّداً سُمي يميناً؛ فاسمُ اليمين جامعٌ للعقد الذي بين
العبد وبين ربِّه وإن كان نذراً، ومنه قول النبيِّ e: "النَّذْرُ حَلْفَة"
وقوله: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ" وقولُ
جماعةٍ من الصحابة للذي نَذَرَ نَذْرَ اللَّجَاجِ والغضبِ: "كَفِّرْ
يَمِينَكَ" وللعهدِ الذي بين المخْلُوقين، ومنه قوله تعالى: )وَلاَ تَنْقُضُوا
الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا( والنهي عن نقض العهود وإن لم يكنْ فيها قسمٌ، وقال تعالى: )وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ( وإنما لفظُ العهدِ "بَايَعْنَاكَ عَلَى أنْ لاَ
نَفِرَّ" ليس فيه قَسَمٌ، وقد سَمَّاهم معاهدين لله، وقال تعالى: )وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسَاءلُونَ بِهِ والأرْحَامَ( قالوا معناه: يتعاهدون ويتعاقدون لأنَّ كلَّ واحد من المعاهدين
إنما عاهده بأمانة الله وكفالته وشهادته؛ فثبت أنَّ كلَّ مَن طعن في ديننا بعد أن
عاهَدْناه عهداً يقتضي أنْ لا يفعل ذلك فهو إمامٌ في الكفر لا يَمِينَ له، فيجب
قتله بنصِّ الآيةِ، وبهذا يظهر الفرقُ بينه وبين الناكِثِ الذي ليس بإمامٍ، وهو
مَن خالف بفعل شيءٍ مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدِّينِ.
سب الرسول يوجب نقض عهد الذمي
الوجه
الرابع:
أنه قال تعالى: )ألاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا
أَيْمَانَهُم وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرّةٍ(؛ فجعل هَمّهم بإخراجِ الرسولِ من المحضِّضَات على قتالهم، وما ذاك
إلا لما فيه من الأذَى، وسَبُّه أغلظ من الهم بإخراجه، بدليل أنه e عَفَا عَامَ الفَتْحِ عن
الذين هَمُّوا بإخْرَاجِهِ، ولم يَعْفُ عمن سَبَّه؛ فالذمِّي إذا أظهر سَبَّه فقد
نَكَث عهده، وفَعَل ما هو أعظم من الهمِّ بإخراج الرسولِ، وبَدَأ بالأذى؛ فيجبُ
قتالُه.
يجب قتال الناكثين للعهد
الوجه
الخامس:
قوله تعالى: )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يشاءُ
واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( أمَرَ سبحانه بقتالِ الناكثين الطاعنين في الدِّين، وضَمنَ لنا –
إن فعلنا ذلك- أن يُعَذِّبهم بأيدينا ويخزيهم، وينصرنا عليهم، ويَشْفِ صدور المؤمنين الذين تأذَّوا من
نَقْضهم وطعنهم، وأن يُذهِبَ غيظ قلوبهم؛ لأنه رتَّبَ ذلك على قتالِنا ترتيبَ
الجزاء على الشرط، والتقديرُ: إنْ تُقَاتلوهم يَكُنْ هذا كلّه؛ فدلَّ على أن
الناكث الطاعن مستحق هذا كله، وإلاَّ فالكفارُ يُدَالُونَ علينا المرة و نُدَال
عليهم الأخرَى، وإن كانت العاقبةُ للمتقين، وهذا تصديق ما جاء في الحديث: "ما
نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلاَّ أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الْْعَدُوُّ" والتعذيبُ
بأيدينا هو القتلُ؛ فيكون الناكث الطاعنُ مستحقاً للقتل، السابُّ لرسول اللهِ e ناكثٌ طاعنٌ كما تَقَدَّم؛ فيستحقُّ القَتْلَ، وإنما ذكر سبحانه
النصر عليهم وأنه يتوبُ من بعد ذلك على من يشاء؛ لأنَّ الكلام في قتال الطائفة
الممتنعة، فأما الواحدُ المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه: "يعذبه اللهُ
ويتوب اللهُ من بعد ذلك على من يشاء" على أنَّ قوله: )مَنْ يَشَاءُ( يجوزُ أن يكون عائداً إلى مَن يطعن بنفسه وإنما أقَرَّ الطاعن؛
فسُميت الفئة طاعنه لذلك، وعند التمييز فبعضُهم رِدْءٌ وبعضهم مباشر، ولا يلزم من
التوبة على الرِّدْءِ التوبةُ على المباشر، ألا ترى أن النبي e أهدَرَ عام الفتح دَمَ الذين باشروا الهجاءَ، ولم يُهدِرْ دَمَ
الذين سمعوه، وأهَدَرَ دَمَ بني بكرٍ، ولم يُهْدِرْ دَمَ الذين أعارُوهم
السلاحَ.
الجهاد باب من أبواب الله تعالى
السادس: أنَّ قولَه تعالى: )وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوِبهِمْ( دليلٌ على أنَّ شفاءَ الصدورِ من ألم النكثِ والطعنِ، وذهابَ
الغيظِ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمْرٌ مقصودٌ للشارعِ مطلوبُ الحصولِ،
وأنَّ ذلك يحصلُ إذا جَاهَدُوا كما جاء في الحديث المرفوع: "عَلَيْكُمْ
بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الله
يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنِ النُّفُوسِ الهَمَّ وَالغَمَّ" ولا ريب أنَّ من
أظهر سَبَّ الرسول e من
أهل الذِّمَّةِ وشتمه فإنه يَغِيظُ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفَكَ دماء بعضهم
وأخَذَ أموالهم؛ فإنَّ هذا يُثِيرُ الغضبَ لله، والحَمِيَّةَ له ولرسولهِ، وهذا
القدر لا يُهَيِّجُ في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، بلِ المؤمن المسدَّدُ لا يغضبُ
هذا الغَضَبَ إلا لله، والشارعُ يطلبُ شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظِ*]/ قلوبهم،
وهذا إنما يحصل بِقَتْل السابِّ لأوْجُهٍ:
ذهاب الغيظ يحصل بقتل الساب