فصـــل
الأدلة من القرآن الدالة على كفر الشاتم وقتله
/وأما
الآيات الدَّالة على كفر الشاتم وقتله، أو على أحدهما، إذا لم يكن مُعَاهِداً – إن
كان مظهراً للإسلام – فكثيرة، مع أن هذا مُجْمَعٌ عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن
غير واحد.
الدليل
الأول
منها
قوله تعالى: )وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ( إلى قوله: )والذينَ يُؤْذونَ رَسُولَ
اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ( إلى قوله: )أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنْهُ
مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ(، فعُلم أن إيذاء رسول الله محادَّة لله ولرسوله؛ لأن ذكر الإيذاء
هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام
مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد،
ودل ذلك على أن الإيذاء و المحادَّة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها،
ولم يقل: "هي جزاؤه"، وبين الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداة
والمشاقَّة، وذلك كفر ومحاربة؛ فهو أغْلَظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول
الله e
كافراً، عدوّاً للهِ ورسوله، محارباً لله ورسوله، لأن المحادَّة اشتقاقها من
المباينة بأن يصير كلُّ واحد منهما في حد كما قيل: "المشاقَّة: أن يصير كل
منهما في شق، والمعاداة: أن يصير كل منهما في عِدْوةٍ".
وفي
الحديث أنَّ رجلاً كان يسبُّ النَّبيَّ e فقال: "مَنْ يَكْفِيني عَدُوِّي؟"، وهذا ظاهر قد تقدم
تقريره، وحينئذٍ فيكون كافراً حَلال الدم؛ لقوله تعالى: )إنَّ الَّذِينَ
يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين(، ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذلَّ؛ لقوله تعالى: )وَللهِ العزةُ ولرسُولهِ
وللمؤمِنيْنَ(
وقوله: )كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ(،
والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى: )لاَ تجدُ قوماً يُؤمنونَ
بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ( الآية، فإذا كان من يُوَادّ المحادَّ ليس بمؤمن فكيف بالمحاد
نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قُحَافَةَ شتم النبي e فأراد الصديق قتله، وأن ابن أُبَيّ تنقَّصَ النبي e، فاستأذن ابنُه النبيَّ e في قتله لذلك، فثبت أن المحادَّ كافرٌ حلالُ الدم.
لا موالاة بين المسلمين و المحادِّين لله ورسوله
وأيضاً،
فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله
ورسوله، فقال تعالى: )لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ منَ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَه ولوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ(
الآية. وقال: )يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوّي/ وَعَدوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إليهِمْ بالْموَدَّةِ( فعُلم أنهم ليسوا من المؤمنين.
وأيضاً،
فإنه قال سبحانه: )وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ
النَّار* ذَلِكَ بأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَآقِّ اللهَ
فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ(.
فجعل
[سبب] استحقاقهم العذابَ في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مُشَاقَّةَ اللهَ
ورسوله، والمؤذي لرسول الله e مُشَاقٌ للهِ ورسوله كما تقدم، والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من
عنده، أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذَهَاب الأموال وفراق الأوطان.
وقال
سبحانه: )إذْ يُوْحِي رَبُّكَ إلَى
المَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ( -إلى قوله:- )سَأُلْقِي في قُلُوبِ
الذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْربُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ واضْرِبُوا مِنْهُم كَلَّ
بَنَانٍ* ذلكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ ورسولهُ( فجعل إلقاء الرُّعب في قلوبهم والأَمر بقتلهم لأجل مشاقَّتهم لله
ورسوله، فكل من شاقَّ الله ورسوله يستوجب ذلك.
والمؤذي
للنبي مُشَّاقٌ للهِ ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك.
تفسير قولهم "هو أذن"
وقولهم:
)هُوَ أُذُن( قال مجاهد: "هو أذُنٌ" يقولون: سنقول ما شِئْنَا ثم
نحلف له فيصدقنا.
وقال
الوالبي عن ابن عباس: يعني أنه يسمع من كل أحدٍ.
قال
بعض أهل التفسير: كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله e ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنّا نخاف أن يبلغه
ما تقولون فيقع بنا، فقال الجُلاَّسُ: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا، فإنما
محمدٌ أذنٌ سامعه، فأنزل الله هذه الآية.
وقال
ابن إسحاق: كان نَبْتَل بن الحارث الذي قال النبي e فيه: "مَن أَرَادَ أَنْ يَنْظُرْ إلَى الشَّيْطَانِ
فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَل بنِ الحَارِثِ" ينمُّ حديثَ النبي e إلى المنافقين، فقيل له: لا تَفْعَلْ، فقال: إنما محمد أُذُن، مَن
حدثه شيئاً صدَّقه، نقول ما شيئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه، فأنزل الله هذه
الآية.
وقولهم:
[أذن] قالوه ليبينوا أن كلامهم مقبول عنده، فأخبر الله أنه لا يصدِّق إلا
المؤمنين، وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير، لا
لأنه صدَّقهم. قال سفيان بن عُيَيْنَة: أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن
القول، ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم، ويَدَعُ سرائركم إلى الله، وربما/ تَضَمَّنت
هذه الكلمة نوع استهزاء و استخفاف.
فإن
قيل: فقد "روى نُعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونُس عن الحسن قال: قال
رسول الله e:
"اللَّهُمَّ لا تجعَلْ لفاجرٍ ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمةً فإني وجدت فيما
أوحيتَه: )لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ(" قال سفيان: يرون أنها أُنزلت فيمن يخالط السلطان، رواه أبو
أحمد العسكري"،وظاهرُ هذا أن كل فاسق لا تبتغي مَودَّته فهو محاد لله ورسوله،
مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدَّم.
اسم النفاق يقع على من ارتكب خصلة من خصاله
قيل: المؤمن الذي يحبُّ الله ورسوله ليس على الإطلاق
بمحادّ لله ورسوله، كما أنه ليس على الإطلاق بكافر ولا منافق، وإن كانت له ذنوب
كثيرة، ألا ترى أن النبي e قال لنُعيمان وقد جُلِد [في الخمر] غير مرة: "إنَّهُ يُحِبُّ
اللهَ وَرَسُولَهُ"؛ لأن مطلق المحادَّة يقتضي مطلق المقاطعة والمصارمة
والمعاداة والمؤمن ليس كذلك، لكن قد يقعُ اسم النفاق على مَن أتى
بِشُعْبَة مِن شُعَبِة، ولهذا قالوا: "كُفْرٌ دون كفرٍ" و "ظُلْمٌ
دون ظلمٍ" و "فِسقٌ دون فسقٍ".
وقال النبي e: "كُفْرٌ بِاللهِ تَبَرّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ" و
"مَن حَلَف بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ" و "آيَةُ المُنَافِقِ
ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَف، وَإِذَا ائْتُمنَ
خَانَ".
وقال
[ابن أبي مُلَيْكَة]: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي e كلهم يخاف النفاق على نفسه.
من الإيمان ألا يواد من حاد الله
فوجه
هذا الحديث أن يكون النبي e عَنَى بالفاجر المنافق،
فلا ينقض الاستدلال، أو يكون عنى كلَّ فاجر لأن الفجور مَظِنَّة النفاق، فما من
فاجر إلا يُخاف أن يكون فجورُهُ صادراً عن مرض في القلب أو موجباً له، فإن المعاصي
بَرِيدُ الكفر، فإذا أحَبَّ الفاسِقَ فقد يكون محباً للمنافق، فحقيقةُ الإيمان
بالله واليوم الآخر أن لا يُوَادَّ من أظهر من الأفعال ما يُخَاف معها أن يكون
محادّاً لله ورسوله، فلا ينقض الاستدلال أيضاً، أو أن تكون الكبائر من شُعَب
المحادة لله ورسوله، فيكون مرتكبها محادّاً من وجه وإن كان مُوَالياً لله ورسوله
من وجه آخر ويناله من الذِّلَّةِ والكَبْتِ بقدر قِسْطِه/ من المحادة، كما قال
الحسن: "وإن طقطقتْ بهم البغال وهَمْلَجَتْ بهم البَرَاذِينُ، إنَّ ذُلَّ
المعصية لَفِي رقابهم، أبى الله إلاَّ أن يُذِلَّ مَن عصاه"؛ فالعاصي ينالُه
من الذِّلة [والكبت] بحسب معصيته وإن كان له من عزة الإيمان بحسب إيمانه، كما
يناله من الذم والعقوبة، وحقيقة الإيمان أن لا يوادَّ المؤمنُ من حادَّ الله بوجه
من وجوه المودَّة المطلقة، وقد جُبِلت القلوب على حب مَن أَحْسَنَ إليها وبُغْضَ
مَن أساء إليها، فإذا اصطنع الفاجِرُ إليه يداً أحبَّه المحبةَ التي جُبِلت
القلوبُ عليها، فيصير موادّاً له مع أن حقيقة الإيمان توجب عدم مودته مع ذلك الوجه
وإن كان معه من أصل الإيمان ما يستوجب به أصل المودة التي تستوجب أن يخص بها دون
الكافر والمنافق، وعلى هذا [فـ]ـلا ينقض الاستدلال أيضاً؛ لأن من آذى النبي e فإنه أظهر حقيقة المحادَّة ورأسها الذي يوجبُ جميع أنواع المحادة،
فاستوجب الجزاء المطلق، وهو جزاء الكافرين، كما أن مَن أظهر حقيقة النفاق ورأسه
اسْتَوْجَب ذلك، وإن لم يستوجبه مَن أظهر شُعْبَةً مِن شعبه، والله سبحانه أعلم.
الدليل
الثاني من القرآن على كفر الشاتم
الدليل
الثاني على ذلك: قوله سبحانه: )يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِم قُلِ
اسْتَهْزئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون* ولَئِن سَألْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخوُضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُجْرميْنَ(
وهذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسبُّ المقصود بطريق
الأَوْلى، وقد دلَّتْ هذه الآية على [أن] كل مَنْ تنقَّصَ رسول الله e جادّاً أو هازلاً فقد كفر.
وقد
رُوي عن رجال من أهل العلم – منهم ابنُ عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقَتَادة –
دخل حديثُ بعضهم في بعض، أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك؛ ما رأيتُ مثل
قُرَّائنا هؤلاء أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ أَلْسُناً، ولا أجْبَنَ عند اللقاء، يعني
رسول الله e
وأصحابه القراء، فقال له عَوْف بن مالك: كذبْتَ، ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله e، فذهب عَوْف/ إلى رسول الله e [ليخبره]، فوجدَ القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله e وقد ارتحل وركِبَ ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نَلْعَبُ
ونتحدَّثُ حديث الركب نَقْطَع به عناء الطريق.
قال
ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بِنِسْعَةِ ناقة رسول الله e، وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما نخُوضُ ونلعب، فيقول له
رسول الله e: )أَبِاللهِ وآيَاتِهِ
وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ( ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه.
وقال
مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمدٌ أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما
يدريه ما الغيب، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال
مَعْمَر عن قَتَادة: بينا رسول الله e في غزوة تَبُوك ورَكْبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا:
أيظنُّ هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونَهَا؟ فأطْلَعَ الله نبيه e على ما قالوا، فقال النبي e "عَليَّ بِهَؤُلاَءِ النَّفَرِ" فدعا بهم فقال:
"أََََقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟" فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب.
قال
مَعْمر وقال الكلبي: كان رجل منهم لم يمالهم في الحديث يسير مجانباً لهم، فنزلت: )إِنْ نَعْفُ عَنْ
طَآئِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً( فسُمي طائفة وهو واحد.
فهؤلاء لما تنقَّصوا النبي e حيث عابوه والعلماءَ من أصحابه، واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم
كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاء، فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يُقِم الحدَّ
عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِرَ به إذ ذاك، بل كان مأموراً بأن يَدَعَ
أذاهم، ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه.
الدليل
الثالث من القرآن
الدليل
الثالث:
قال سبحانه: )وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقَاتِ(
واللمز: العيبُ والطعن، قال مجاهد: يتهمك يسألك يزْراك، وقال عطاء: يَغْتَابُك.
العبرة
بعموم اللفظ
وقال
تعالى: )وَمِنْهُمُ الذِينَ يُؤْذُونَ النّبي(، وذلك يدلُّ على أن كلَّ من لمزه أو آذاه كان منهم؛ لأن )الَّذِينَ( و )مَنْ( اسمان موصولان، وهما من صيغ العموم، والآية وإن كانت نزلت بسبب
لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخرين، فحكمها عامٌّ كسائر الآيات اللواتي نزلَنْ على/ أسباب،
وليس بين الناس خلافٌ نعلمه أنها تعمُّ الشخصَ الذي نزلت بسببه ومَن كان حاله
كحاله، ولكن إذا كان اللفظ أعمَّ من ذلك السبب فقد قيل: إنه يُقْتَصَر على سببه،
والذي عليه جماهيرُ الناس أنه يجب الأخْذُ بعموم القول، ما لم يقم دليل يوجب القصر
على السبب كما هو مقرر في موضعه.
وأيضاً،
فإن كَوْنَه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى، وهو مناسبٌ لكونه منهم؛
فيكون ما منه الاشتقاقُ هو علَّةً لذلك الحكمِ، فيجب اطِّرَادُه.
الإيمان أو النفاق في القلب والعمل دليل عليه
وأيضاً،
فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول، لكن لم يُعْلِم نبيَّه
بكل مَن لم يُظْهر نفاقَهُ، بل قال: )وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ
الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفَاقِ لاَ
تَعْلَمُهُمْ( ثم
إنه سبحانه ابتلى الناس بأمور يميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال تعالى: )وَلَيَعْلمَنَّ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلمَنَّ المُنَافِقِينَ(، وقال تعالى: )مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ
المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِن
الطَّيِّبِ(،
وذلك لأن الإيمان والنفاق أصْلُه في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرعٌ
له ودليل عليه؛ فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك تَرَتَّبَ الحكم عليه، فلما أخبر
سبحانه أن الذين يَلْمَزُونَ النبي e والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليلٌ على النفاق وفرعٌ
له، ومعلومٌ أنه إذا حصلَ فرعُ الشيء ودليلُه حصل أصلُه المدلولُ عليه، فثبت أنه
حَيْثُما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حَدَثَ له
النفاق بهذا القول.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القولُ دليلاً للنبي
e على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم، وإن لم يكن
دليل من غيرهم؟
قلنا:
إذا كان دليلاً للنبي e الذي يمكن أن يُغْنِيَهُ الله بِوَحْيِهِ عن الاستدلال فأن
يَكُونَ دليلاً لمن لا يمكنه معرفةُ [البواطن] أَوْلى وأحْرَى.
وأيضاً،
فلو لم تكن الدلالة مُطَّردة في حق كل مَن/ صدر منه ذلك القولُ لم يكن في الآية
زَجْرٌ لغيرهم أن يقول مثل هذا القول، ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه؛
فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينة، وإن كانت أمراً مُباحاً، كما
لو قيل: من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحبُ الثوب الأسود، ونحو ذلك، فلما دلَّ
القرآن على ذم َّ عَيْنِ هذا القول والوعيدِ لصاحبه عُلم أنه لم يُقْصَد به
الدلالة على المنافقين بأعينهم فقط، بل هو دليل على نوعٍ من المنافقين.
وأيضاً،
فإن هذا القول مناسبٌ للنفاق؛ فإن لَمْزَ النبي e وأذاه لا يفعله مَن يعتقد أنه رسولُ الله حقاً، وأنه أَوْلى به من
نَفْسه، وأنه لا يقول إلا الحق، ولا يحكم إلا بالعدل، وأن طاعته طاعة لله، وأنه
يجب على جميع الخلق تعزِيرُه وتوقيره، وإذا كان دليلاً على النفاق نفسِهِ فحيثما
حصلَ حصل النفاق.
وأيضاً،
فإن هذا القول لا رَيْبَ أنه مُحَرَّم؛ فإما أن يكون خطيئةً دون الكفر أو يكون كفراً،
والأول باطل؛ لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العُصَاة من الزاني والقاذف
والسارق والمُطَفِّفِ والخائن، ولم يجعل ذلك دليلاً على نفاق معين ولا مطلق؛ فلما
جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين عُلم أن ذلك لكونها كفراً، لا لمجرد كونها
معصية؛ لأن تخصيص بعض المعاصي بجعلها دليلاً على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص
دليلُ النفاق بما يوجب ذلك، وإلاَّ كان ترجيحاً بلا مُرَجِّح، فثبت أنه لابُدَّ أن
يختص هذه الأقوال بوصفٍ يُوجبُ كونها دليلاً على النفاق، وكلما كان كذلك فهو كفر.
جعل الله أقوالهم علامة مطردة على عدم الإيمان
وأيضاً،
فإن الله سبحانه لما ذكر بعض الأقوال التي جَعَلَهم بها من المنافقين وهو قوله: )ائْذَنْ لِي وَلاَ
تَفْتِنِّي( قال
في عقب ذلك: )لا يَسْتَأْذنُكَ الَّذِينَ
يُؤمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ( إلى قوله: )إنمَّاَ يَسْتأْذِنُكَ
الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ باللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وِارْتِابِتْ قُلوبُهُمْ
فِهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون( فجعل ذلك علامةً مُطَّردة على عدم الإيمان، وعلى الريب، مع أنه
رغبة عن الجهاد مع رسول الله e بعد استنفاره،/ وإظهارٌ من القاعد أنه معذورٌ بالقعود، وحاصلُه
عدم إرادة الجهاد، فلمزُهُ وأذاه أَوْلى أن يكون دليلاً مطرداً؛ لأن الأول خِذْلان
له، وهذا مُحاربة له، وهذا ظاهر.
الآيات دليل على إخراجهم عن الإيمان
وإذا
ثبت أن كل مَن لمز النبي e أو آذاه منهم فالضميرُ عائد على المنافقين والكافرين؛ لأنه سبحانه
لما قال: )انِفرُوا خِفافاً وَثِقَالاً
وَجَاهِدُوا بأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون( قال: )لَوْ كَانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكْن بَعُدَتْ عَليْهمُ الشُقّةُ
وَسَيَحْلِفُونَ باللهِ (وهذا الضمير عائد إلى معلومٍ غير
مذكورٍ، وهم الذين حلفوا: )لَوِ اسْتَطَعْنَا
لخَرَجْنَا مَعَكُمْ(
وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف، ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: )قُلْ أَنفقُوا طَوْعاً أَو
كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم إنَّكم كُنْتُم قَوْماً فَاسِقينَ* ومَا مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولهِ( فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفَرُوا بالله ورسوله، وقد جعل منهم
مَن يلمز، و[منهم] من يؤذي. وكذلك قوله: )وَمَا هُمْ مَنْكُمْ( إخراجٌ لهم عن الإيمان.
وقد
نَطَقَ القرآن بكفر المنافقين في غير موضع، وجعلهم أسوأ حالاً من الكافرين، وأنهم
في الدَّرْك الأسفل من النار، وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: ) انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم( الآية، إلى قوله: )فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ولاَ مِنْ الّذِين كَفَرُوا( وأمر نبيَّه في آخر الأمر بأن لا يصلي على أحدٍ منهم وأخبر أنه
لَنْ يغفر لهم. وأمَرَهُ بجهادهم والإغلاظ عليهم، وأخبر أنهم إن لم ينتهوا
لَيُغْرِيَنَّ الله نبيه بهم حتى يُقَتَّلُوا في كل موضع.
الدليل
الرابع من القرآن
الدليل الرابع على ذلك أيضاً: قوله سبحانه وتعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( أقْسَمَ سبحانه بنفسهِ أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه في الخصومات
التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمه، بل يُسلِّموا لحكمه ظاهراً
وباطناً.
من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فلم يقبل كان منافقاً
وقال
قبل ذلك: )أَلَم تَرَ إلى الَّذِين يَزْعُمُونَ
أَنَّهُم ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ يُريدُونَ
أَنْ يَتَحَاكََمُوا إلى الطَّاغُوتِ/ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ
ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإذَا قِيلَ لَهُمُ
تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللهُ وإلَى الرَسُولِ رَأَيتَ المنافقِينَ يَصُدُّونَ
عَنكَ صُدُوداً(
فبيّن سبحانه أن مَن دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصدَّ عن رسوله
كان منافقاً، وقال سبحانه: )وَيقُولُونَ آمنَّا باللهِ
وَبالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بعْدِ ذَلِكَ
وَمَا أُوْلَئِكَ باِلمؤمِنَينَ* وَإِذَا دُعُوا إلى اللهِ ورسُولهِ لِيحكُمَ
بَينهُمْ إذا فَرِيقٌ مِّنْهمْ مُّعْرِضونَ* وَإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأَتُوا
إليهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللهُ عَليهمْ ورسُولهُ بَلْ أُوْلَئكَ هُمُ الظَالِمُونَ* إنّمَا كَانَ قَوْلَ
المُؤمِنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ
يَقُولُوا سَمِعنا وأطعْنَا( فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من
المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا؛ فإذا كان النفاق
يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع إن
هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟
عمر يقتل رجلاً لا يرضى
قضاء النبي
ويؤيد
ذلك ما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن دُحيْم في تفسيره:
حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمرة حدثني أبي أن رجلين
اخْتَصَما إلى النبي e،
فقضى للمُحِقِّ على المُبْطل، فقال المقضيُّ عليه: لا أرْضَى، فقال صاحبه: فما
تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، قال الذي قُضِيَ له: قد
اختصمنا إلى النبي e،
فقضى لي عليه، فقال أبو بكر: فأنتما على ما قَضَى به النبي e، فأبى صاحبه أن يرضى، قال نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال
المقضيُّ له: قد اختصمنا إلى النبي e [فقضى لي عليه] فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال:
أنتما على مل قضى به النبي e، فأبى أن يَرْضى، فسأله عمر فقال: كذلك!! فدخل عمر منزله فخرج
والسيفُ بيده/ قد سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله تبارك
وتعالى: )فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْما شَجَرَ بَيْنَهُمْ( الآية.
وهذا
المرسَلُ له شاهدٌ من وجه آخر يصلح للاعتبار.
قال
ابن دحيم: حدثنا الجُوْزَجَاني، حدثنا أبو الأسود، حدثنا ابن لَهِيعةَ عن أبي
الأسود، عن عُرْوَةَ بن الزبير. قال: اختصم إلى رسول الله e رجلان، فقضى لأحدهما، فقال الذي قُضي عليه: رُدَّونا إلى عمر،
فقال رسول الله e:
"نَعَمْ، انْطَلِقُوا إِلى عُمَر" فانطلقا، فلما أتيا عمر قال الذي
قُضِيَ له: يا ابن الخطاب إن رسول الله e قَضَى لي، وإن هذا قال: رُدَّنا إلى عمر، فردنا إليك رسولُ الله e، فقال عمر: أكذلك؟ للذي قُضَي عليه، [قال: نعم] فقال عمر: مكانَكَ
حتى أخرج فأقضِيَ بينكما، فخرج مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال: "رُدَّنا
إلى عمر" فقتله، وأدبر الآخر إلى رسول الله e فقال: يا رسول الله قَتَل عمر صاحبي، ولولا ما أعجزته لقتلني،
فقال رسول الله e:
"ما كُنْتُ أظنُّ [أن] عُمَرَ
يَجْتِري عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ" فأنزل الله تعالى: )فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْما شَجَرَ بَيْنَهُمْ( فبرَّأ اللهُ عُمَر من قتله.
وقد
رُوِيت هذه القصة من غير هذين الوجهين، قال أبو عبدالله أحمدُ بن حنبل: ما أكتب
حديثَ ابن لَهِيْعَة إلا للاعتبار والاستدلال، وقد أكتب حديث [هذا] الرجل على هذا
المعنى كأني أستدلُّ به مع غيره يَشُدُّه، لا أنه حجة إذا انفرد.
الدليل
الخامس من القرآن
الدليل
الخامس:
ما استدل به العلماء على ذلك: قوله سبحانه: )إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ
عَذَاباً مُهِيناً* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا(
الآية، ودلالتها من وجوه:
من آذى الرسول فقد آذى الله
أحدها: أنه قَرَن أذاه بأذاه
كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن
آذى الله فهو كافر حَلالُ الدَّمِ، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبةَ اللهِ ورسوله
وإرضاءَ اللهِ ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: )قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيكم مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ( وقال: )وَأَطِيعُوا الله
والرَّسُول( في مواضع متعددة، وقال تعالى:/ )وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ( فوحَّدَ الضميرَ، وقال
أيضاً: )إنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنَّمَا
يُبَايِعُونَ الله(
وقال أيضاً: )يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُل
الأنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ(.
وجعل شقاق الله ورسوله ومحادَّةَ الله ورسوله
وأذى الله ورسوله ومعصيةَ الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: )ذَلِكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا
اللهَ وَرَسُولهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرسُولَهُ( وقال: )إنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسولَه(. وقال تعالى: )ألَمْ يَعْلمُوا أنَّهُ
مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ( وقال: )وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسولَهُ(
الآية.
حق الله وحق رسوله متلازمان
وفي
هذا وغيرِه بيانٌ لتلازم الحقين، وأن جهةَ [حرمة] الله ورسوله جهة واحدة؛ فمن آذى
الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يَصِلون ما بينهم
وبين ربهم إلا [بواسطة] الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سبب سواه، وقد
أقامه الله مُقَام نفسِهِ في أمره ونَهْيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفَرَّقَ
بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.
وثانيها: أنه فَرَّق بين أذى الله
ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل هذا قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً،
وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعَدَّ له العذابَ المُهين، ومعلومٌ أن
أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجَلْد، وليس فوق ذلك إلا الكفر
والقتل.
الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في
الدنيا والآخرة وأعَدَّ لهم عذاباً مهيناً، واللَّعْنُ: الإبعاد عن الرَّحمة، ومَن
طَرَده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلاَّ كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها
بعضَ الأوقاتِ، ولا يكون مباحَ الدَّمِ؛ لأن حقْنَ الدم رحمةٌ عظيمة من الله؛ فلا
يثبت في حقه.
ويؤيد
ذلك قولُه: )لَّئِن لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ
وَالذِينَ فِي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ
بِهمْ ثمَّ لا يُجَاورُونَكَ فِيْهَا إلاَّ قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا
ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً(، فإن أخْذَهم وتقتيلَهم – والله أعلم – بيانٌ لصفةِ لعنهم، وذكرٌ
لحُكْمه، فلا موضع له في الإعراب، وليس بحالٍ ثانية؛ لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم
يَظْهر أثر لعنهم في الدنيا، لم يكن في ذلك وعيد لهم.
بل
تلك اللعنة ثابتةٌ قبل هذا الوعيد وبعده؛ فلابد أن يكون هذا الأخْذُ والتقتيل من
آثار اللعنة التي وُعِدُوهَا، فثبتت في/ حق مَن لعنه الله في الدنيا والآخرة.
ويؤيدُه
قولُ النبي e:
"لَعْنُ المؤمِنِ [كَـ]ـقَتْلهِ" متفق عليه، فإذا كان الله لعن هذا في
الدنيا والآخرة فهو كقتله، فعلم أن قتله مُبَاحٌ.
قيل:
واللَّعْنُ إنما يستوجبه مَن هو كافر، لكن هذا ليس جيداً على الإطلاق.
ويؤَيده
أيضاً قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ
للَّذَينَ كفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً* أولئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً(، ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نَصْرُه لكان له نصير.
ويوضح
ذلك أنه قد نزل شأن ابن الأشْرَفِ، وكان من لعنته أن قُتِلَ؛ لأنه كان يؤذي الله
ورسوله.
وأعلم
أنه لا يَرِدُ على هذا أنه قد لُعِنَ مَنْ لا يجوز قتلُه لوجوه:
أحدها: أن هذا قيل فيه: لَعَنَه
الله في الدنيا والآخرة فبين أنه سبحانه أقْصَاهُ عن رحمته في الدارين، وسائر
الملعونين إنما قيل فيهم: لعنه الله أو عليه لعنة الله وذلك يحصل بإقصائه عن
الرَّحمة في وقتٍ من الأوقات، وفَرْقٌ بين مَن لعنه الله لعنةً مؤَبَّدة عامة ومَن
لعنه لعناً مطلقاً.
الثاني: أن سائر الذين لعنهم
الله في كتابه مثلُ الذين يكتمون ما أنزَلَ الله مِن الكتاب، ومثل الظالمين الذين
يَصُدُّون عن سبيل الله وَيَبْغُونها عِوَجاً، ومثل مَن يقتل مؤمناً متعمداً – إما
كافرٌ أو مُبَاح الدم، بخلاف بعض مَن لُعن في السنة.
اللعن بصيغة الخبر غير اللعن بصيغة الدعاء
الثالث: أن هذه الصيغة خبر عن
لعنة الله له، ولهذا عطف عليه )وَأَعَدَّ لهُمْ عَذَاباً
مُهيناً(
وعامة الملعونين الذين لا يُقْتَلُونَ أو لا يُكَفَّرون إنما لُعِنُوا بصيغة
الدعاء، مثل قوله e:
"لَعَن الله مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ"، [و]: "لعن الله
السَّارِق"، و "لَعَنَ الله آكِلَ الرَّبَا ومُوكِلَه" ونحو ذلك.
لكن
الذي يَرِدُ على هذا قولُه تعالى: )إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
ولهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( فإن في هذه الآية ذِكْرَ لعنتهم في الدنيا والآخرة، مع أن مجرد
القذف ليس بكفر ولا يبيح الدم.
والجواب
عن هذه الآية من طريقين مُجْمَلٍ ومُفَصَّلٍ.
أما
المجْمَل فهو أن قَذْفَ المؤمن القذف المجرَّد هو نوع من أذاهُ، وإذا كان كَذِباً
فهو بُهْتَان عظيم، كما قال سبحانه: )